سورة المائدة - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}
{ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر} وقد مرّ تفسيره، فإن جمعه تحريمها وسنذكر أخباراً في الوعيد الوارد في شربها واتخاذها وبيعها وباللّه التوفيق.
عن الشيخ أبو عمرو أحمد بن أبي الفراني، الحاكم أبو الفضل محمد بن أحمد بن عبد اللّه المروزي حدثني عبد اللّه بن يحيى حدثني الحسين بن المبارك حدثني عتبة بن الوليد عن عبد اللّه ابن حبيب عن الزهري عن ابن المسيب عن عثمان بن عفان قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إن اللّه لا يجمع الخمر والإيمان في امرئ أبداً».
أحمد بن أبي، عمران بن موسى، ومارود بن بطن، عثمان بن أبي شيبة، محمد بن أبي سلمى الأصفهاني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «مدمن الخمر كعابد الوثن».
أحمد بن أُبي، محمد بن يعقوب، الربيع بن سليمان، الشافعي مالك عن نافع عن إبن عمر إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة».
أحمد بن أُبي، أبو عبد اللّه بن محمد بن موسى الرازي، الحرث بن أبي أسامة البغدادي، داود ابن المحسن الواسطي، ميسر بن عبد ربه عن أبي عائشة السعدي عن يزيد بن عمر بن عبد العزيز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وابن عباس جميعاً قالا: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر في الدنيا سقاه اللّه من سم الأساود وسم العقارب، من شربها تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها فإذا شربها تفسخ لحمه ينادي به أهل الجمع ثم يؤمر به إلى النار إلا وشاربها وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومبتاعها وحاملها والمحمول إليه وكل فيها سواء في إثمها وحاد بها، ولا يقبل اللّه منه صلاة ولا صياماً ولا حجاً ولا عمرة حتى يتوب فإن مات قبل أن يتوب منها كان حقاً على اللّه يعاقبه فيه بكل جرعة شربها في الدنيا شربة من صديد جهنم ألا وكل مسكر خمر وكل خمر حرام».
أحمد بن أُبي، أبو العباس الأصم، أحمد بن إسحاق الصنعاني، أبو نعيم، عبد العزيز بن محمد ابن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد اللّه الغافقي من أهل مصر عن ابن عمر أنه قال: أشهد أني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وأكل ثمنها».
أحمد بن أُبي، أبو العباس الأصم، محمد بن إسحاق بن جعفر الصنعاني، نعيم بن ماد، عبد العزيز بن محمد عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر ولا يموتن أحدكم وعليه دين فإنه ليس هناك دينار ولا درهم وإنما يقتسمون هناك الحسنات والسيئات واحد بيمينه وواحد بشماله».
أبو بكر أحمد بن محمد القطان، محمد بن الحسين بن محمد الدهقان، عثمان بن سعيد الدارمي، الربيع بن الروح أبو توبة الحلبي، محمد بن الحرمي عن حكم بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر بعد أن حرمها اللّه على لساني فليس له أن يزوج إذا خطب ولا يصدق إذا حدث ولا يشفع إذا شفع ولا يؤتمن على أمانة فمن أئتمنه على أمانة فاستهلكها فحق على اللّه عز وجل أن لا يخلف عليه».
أنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا أبو العباس عبد اللّه بن محمد الجبّائي، أنشدنا رضوان ابن أحمد الصيدلاني شعراً:
تركت النبيذ لأهل النبيذ *** وصرت حليفاً لما عابه
شراباً يدنس عرض الفتى *** ويفتح للشر أبوابه
{والميسر والأنصاب} أي الأوثان، سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها، واحدها: نصب بفتح النون وجزم الصاد، ونصب منهم النون مثقلاً ومخففاً {والأزلام} يعني القداح التي كانوا يقتسمون بها {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} تزينه {فاجتنبوه} رد الكناية إلى الرجس {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ} يلقي {بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر} كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحي الجمل {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أي إنتهوا لفظه إستفهام ومعناه أمر كقوله: {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا} المحارم والملاهي {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ}. عن ذلك {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ} فإما التوفيق والخذلان، والثواب والعقاب فإلى اللّه سبحانه، فلما نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة: يا رسول اللّه ما تقول في إخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فأنزل اللّه {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} شربوا الخمر نظيره قوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] وفيما أكلوا من الميسر ذلك ذكر المنعم لأنه لفظ جامع {إِذَا مَا اتقوا} الشهوات {وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ} الخمر والميسر بعد تحريمهما {ثُمَّ اتَّقَواْ} حرم اللّه عليهم كله {وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين}.
الحسين بن محمد بن فنجويه، عمر بن الخطاب، محمد بن إسحاق الممسوحي، أبو بكر ابن أبي شيبة، محمد بن بكر عن سعد بن عوف عن محمد بن حاطب قال: ذكر عثمان قال الحسن بن علي: هذا أمير المؤمنين يأتيكم خبركم فجاء علي فقال: إن عثمان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا واللّه يحب المحسنين {ياأيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد} الآية، نزلت عام الحديبية إبتلاهم اللّه بالصيد فكان الوحش يغشى رجالهم كثير وهم محرمون فبينما هم يسيرون بين مكة والمدينة إذ عرض اليهم حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فطعنه برمحه فقتله فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت حرم فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فأنزل اللّه {ياأيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} ليختبرنكم اللّه {بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد} وإنما بعض فقال بشيء لأنه إبتلاهم بصيد البرّ خاصة {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} وهي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر من الصيد الوحش {وَرِمَاحُكُمْ} وهي الوحش وكبار الصيد {لِيَعْلَمَ الله} ليرى اللّه من يخافه بالغيب ولم يره {مَن يَخَافُهُ بالغيب} فلا يصطاد في حال الإحرام {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} أي صاده بعد تحريمه فاستحلّه {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي محرمون بالحج والعمرة وهو جمع إحرام يقال رجل حرام وامرأة حرام {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} إختلفوا في صيغة العمد الموجب للجزاء والكفارة في قتل الصيد، قال: حرموا العمد في قتل الصيد مع نسيانه لإحرامه في حال قتله فأما إذا قتله عمداً وهو ذاكراً لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى اللّه لأنه أعظم من أن يكون له كفارة.
قرأ مجاهد والحسن وقال آخرون: هو العمد من يحرم بقتل الصيد ذاكر الحرمة فيحكم عليه في العمد والخطأ وهو إختيار الشافعي وأكثر الفقهاء.
وقال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ.
وقال ابن عباس: إن قتله متعمداً مختاراً سئل: هل قتلت قبله شيئاً من الصيد؟ فإن قال: نعم لم يحكم عليه وقيل له: إذهب فينتقم اللّه منك. وإن قال: لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه فإن عاد وقتل الصيد محرماً بعد ما حكم عليه لم يحكم عليه ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً، وكذلك حكم رسول اللّه عليه السلام في وج وهو وادي بالطائف، وعندنا إذا عاد يحكم عليه وعليه الجمهور بذلك.
قوله: {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} نوّنها يعقوب وأهل الكوفة ورفعوا المثل على البدل من الجزاء، كأنه فسّر الجزاء فقال: مثل ما قيل من النعم وأضافها الآخرون لاختلاف الإسمين {يَحْكُمُ بِهِ} أي بالجزاء {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} أي فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به حتى يفديه ويهديه إلى الكعبة فإن قتل نعامة فعليه بدنة فإن قتل بقرة أو إبلاً أو حماراً فعليه بقرة وإن قتل بقرة وحشية فعليه عجل إنسي وفي الضبع كبش لأنه صيد وأكله حلال.
وأما السباع فلا شيء فيها وإن قتل ضبياً فعليه شاة، وفي الغزال والأرنب جمل، وفي الضب واليربوع سخلة، وفي الحمام والفواخت والقمري والدبسي وذوات الأطواق وكل ما عبث وهدر شاة، واختلفوا في الجراد وروي عن عمر أنّه قال لكعب وقد قتل جرادتين: ما جعلت على نفسك، قال: درهماً قال: بخ، قال: درهم خير من مائة جرادة.
وروي عن عمر أيضاً في الجرادة تمرة.
قال ابن عباس: قبضة من طعام فإن أصاب فرخاً أو بيضاً أو شيئاً لا يبلغ بهيمة فعليه قيمته طعاماً، وهو قول عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر وإليه ذهب الشافعي، وعليه جمهور أهل العلم، قال النخعي: يقوم الصيد المقتول قيمته من الدراهم فيشتري بثمنه فداء من النعم ويهديه إلى الكعبة.
وروى عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجاً وكنا إذا صلينا الغداة أفسدنا رواحلنا نتماشى ونتحدث، فبينا نحن ذات غداة إذ سنح لنا ضبي فابتدرناه فابتدرته ورميته بحجر فأصاب حشاه فركب ردعه فمات فلما قدمنا مكة سألنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان حاجاً وكان جالساً وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف فسألته عن ذلك، فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ فقال: عليه شاة قال: وأنا أرى ذلك. قال: إذهب فأهد شاة فخرجت إلى صاحبي فقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: فلم يفجأنا إلاّ وعمر معه درّة فعلاني بالدرّة فقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم، قال اللّه {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} فأنا عمر وهذا عبد الرحمن.
محمد بن عبدوس عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن القاسم بن علام عن أبي أمية عن أبي صوليه عن عبد الملك بن عمير: أو كفارة طعام مساكين إذا لم يكن واجداً للفدية أو لم يكن للمقتول مثل من النعم فكفارته حينئذ الإطعام. يقوّم الصيد المقتول دراهم ثم يقوّم الدراهم طعاماً فتصدق على مساكين الحرم فإن لم يجد فصيام لكل نصف صاع يوماً عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: لكل مدّ وعنده إنه يخير من هذه الأشياء الثلاثة فإنه ذكرها تلفظاً وهو قول مجاهد وعطاء، واختلفوا في تقويم الطعام.
فقال الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء: يقوّم الصيد قيمة الأرض التي أصابه بها.
وقال الشعبي: يقوّم بسعر الأرض التي يكفر بها. قال جابر: سأل الشعبي عن محرم أصاب صيداً بخراسان. قال: يكفر بمكة بثمن مكة.
واختلفوا في الإطعام أين يُطعم؟.
فقال قوم: يُطعم بمكة فلا يجزي إلاّ بها، وهذا قول عطاء وإليه ذهب الشافعي.
فأما الهدي فلا يجوز إلاّ بمكة بلا خلاف. فأما الصوم فيجوز بأي موضع صام بلا خلاف فلو أكل من لحم صيد فلا جزاء عليه إلاّ في قتله أو جرحه ولو دلّ على صيد كان مسيئاً جزاء عليه كما لو أمر بقتل مسلم لا قصاص عليه وكان مسيئاً.
واعلم أن الصيد الذي لا يجوز قتله في الحرم وفي حال الإحرام هو ما حلّ أكله.
أبو عبد اللّه الحسين بن محمد الدينوري، أبو بكر البستي، أبو عبد الرحمن البستي، قتيبة ابن سعد عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة والكلب العقور».
وبه عن عبد الرحمن عمرو بن علي عن يحيى عن شعبة عن قتادة عن ابن المسيّب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس يقتلهن المحرم: الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور».
{لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} جزاء معصيته {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} في الجاهلية {وَمَنْ عَادَ} في الإسلام {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} في الآخرة.
وقال ابن عباس: يملأ ظهره سوطاً حتى يموت.
السدي: عاد رجل بعد ما حكم عليه بالتحريم وأحرقه اللّه بالنار.
{والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر} على المحرم والحلال. وهو على ثلاثة أوجه: الحيتان وأجناسها وكلها حلال، والثاني: الضفادع وأجناسها وكلها حرام. والثاني فيه قولان، أحدهما: حلال، والثاني: حرام، وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال بعضهم: كل ماكان مثاله في البر فهو حلال في البحر وما كان مثاله جزاء ما في البر فهو حرام في البحر.
فأراد بالبحر جميع المياه لقوله: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} [الروم: 41] {وَطَعَامُهُ} قال بعضهم: هو ما مات في الماء فقذفه الماء إلى الساحل ميتاً وهو قول أبي بكر وعمر وإبنه وأبي هريرة وابن عباس، وقال بعضهم: هو المليح منه، وهو قول ابن جبير وعكرمة والنخعي وابن المسيب وقتادة {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} يعني المارة.
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} لا يجوز للمحرم أكل الصيد إذا صاد هو وصيد له بأمره فأما إذا صاده حلال بغير أمره ولا له فيجوز له بلا خلاف.
فأما إذا قتله المحرم فهل يجوز أكله أم لا؟
قال الشافعي: يجوز لأنه ذكاة مسلم، وعند أبي حنيفة لا يجوز فأحلّه محل ذكاة المجوس، ودليل الشافعي، أبو عبد اللّه الفنجوي، أبو بكر السني، النامي، محمود بن عبد اللّه، أبو داود، سعيد عن عثمان بن عبد اللّه موهب سمعت عبدالله بن أبي قتادة حدث عن أبيه «إنهم كانوا في مسير لهم في بعضهم ليس بمحرم، قال: فرأيت حماراً وحشياً، فركبت فرسي وأخذت الرمح واستعنتهم فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطاً من بعضهم فشددت على الحمار وأخذته فأكلوا منه فأشفقوا فسئل عن ذلك النبي عليه السلام فقال: هل محرم عنيتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا».
وبإسناده عن النسائي قال: حدّثنا، قتيبة بن سعيد عن يعقوب وهو ابن عبد الرحمن بن عمرو عن المطلب عن جابر سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إن صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو صيد لكم».
{واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.


{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}
{جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام}. الآية.
قال ابن عباس: كانوا يتغادرون ويتقاتلون فأنزل اللّه {جَعَلَ الله الكعبة}.
قال مجاهد: سميت كعبة مربع والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة.
وقال مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البنيان.
قال أهل اللغة: أصلها من الخروج والإرتفاع وسمّي الكعب كعباً لخروجه من جانبي القدم، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرجت ثدياها: قد تكعبت، فسميت الكعبة كعبة لارتفاعها من الأرض، وثباتها على الموضع الرفيع، وسميت البيت الحرام لأن اللّه حرّمه وعظم حرمته.
وفي الحديث: «مكتوب في أسفل المقام: إني أنا اللّه ذو بكة حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض. ويوم وضعت هذين الجبلين وحففتهما بسبعة أملاك حفاً من جاءني زائراً لهذا البيت عارفاً بحقه مذعناً لي بالربوبية حرّمت جسده على النار».
{قِيَاماً لِّلنَّاسِ} أي قواماً لهم في أمر دينهم ودنياهم وصلاحاً لمعاشهم ومعادهم لما يحصل لهم من الحج والعمرة والزيارة والتجارة وما يجبى إليه من الثمرات ويظهر فيه من أنواع البركات.
فقال إبن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئاً للدنيا والآخرة أصابه {والشهر الحرام} أراد به الأشهر الحرم يأمن فيها الناس {والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ} الآية.
إعتُرض على هذه الآية وقيل: كيف يليق أول الآية بآخرها؟ فالجواب أن مجاز الآية إن اللّه يعلم صلاح الناس كما يعلم {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} الآية {اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} الآيتين {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} يعني الحلال والحرام.
{وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} نزلت في شرح بن صبيعة وحجاج بكر بن وائل {فاتقوا الله} ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين.
وقد مضت القصة في أول السورة {ياأولي الألباب} الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} الآية، إختلفوا في نزولها، فروى الزهري وقتادة عن أنس وأبو صالح عن أبي هريرة قالا: «سأل الناس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى ألحّوا بالمسألة فقام مغضباً خطيباً وقال: سلوني فواللّه لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا لآتيته لكم، فأشفق أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد مضى، قال أنس: فجعلت لا ألتفت يميناً ولا شمالاً إلاّ وجدت رجلاً لافاً رأسه في ثوبه يبكي، فقام إليه رجل من قريش من بني تميم يقال له عبد اللّه بن حذافة: وكان يطعن في نسبه وكان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي اللّه من أبي؟ قال: أبو حذافة بن قيس». قال الزهري: فقالت أم عبد اللّه بن حذافة: ما رأيت ولداً بأعق منك قط أكنت تأمن أن تكون أمك قد فارقت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤس الناس.
فقال: واللّه لو ألحقني بعبد أسود للحقته، فقام إليه رجل آخر فقال: يا رسول اللّه أين أنا؟ قال: في النار.
فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبل رجل رسول اللّه وقال: رضينا باللّه ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً، إنا يا رسول اللّه حديثو عهد بالجاهلية والشرك فاعف عنا عفى اللّه عنك فسكن غضبه وقال: «أما والذي نفسي بيده لقد صورت لي الجنة والنار أنفاً في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر».
وقال ابن عباس: كانوا قوم يسألون رسول اللّه عليه السلام إمتحاناً بأمره، واستهزاءً به، فيقول له بعضهم من أبي؟ ويقول الآخر: أين أنا؟ ويقول الآخر إذا خلت ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وقال علي وأبو أمامة الباهلي: خطب بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: «إن اللّه كتب عليكم الحج». فقام رجل من بني أسد يقال له عكاشة بن محسن فقال: أفي كل عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال عليه السلام: «ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، واللّه لو قلت نعم لوجبت، ولو أوجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية حين قالوا لرسول اللّه عن البحيرة والسائبة ألا ترى يقول بعد ذلك ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة الآية {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ} تسؤكم لأن القرآن إنما ينزل بإلزام فرض فيشق عليكم أو شيء كان حلالاً لكم {عَفَا الله عَنْهَا والله غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} كما سألت ثمود صالحاً الناقة، وقوم عيسى المائدة {ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} فأهلكوا.
روى مكحول الشامي عن أبي ثعلبة الخشني قال: إن اللّه فرض فرائض فلا تسبقوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.
{مَا جَعَلَ الله} ما أنزل اللّه ولا من اللّه ولا أمر به نظيره قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: 3] أي أنزلناه، {مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ}.
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التميمي عن أبي صالح السمّان عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأكتم بن الجون: يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا بك منه، وذلك إنه أول من غيّر دين إسماعيل ونصب الأوثان، ونحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، ولقد رأيت في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه» فقال أكثم: تخشَ أن يضرني شبهه يا رسول اللّه، قال: «لا أنت مؤمن وهو كافر».
قال: وذلك أن الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلاّ ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع إنها في الإبل يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلاّ ضيف كما فعل بأُمها وهي البحيرة بنت السائبة.
وقال ابن عباس: على إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس، فإن كان ذكراًنحروه، فأكله الرجال والنساء جميعاً وإن كانت أنثى شقوا أُذنها فتلك البحيرة ولا يجز لها وبر، ولا يذكر عليها إسم اللّه إن ذُكيّت ولا يحمل عليها وحرّمت على النساء لا يذقن من ألبانها ولا ينتفعن بها وكانت لبنها ومنافعها خاصة للرجال دون النساء حتى تموت، وإذا ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها.
وقيل: هو إنهم كانوا إذا ولد السقب بحروا أذنها وقالوا: اللهم إن عاش ففتي وإن مات فذكي، فإذا مات أكلوه.
وأما السائبة فكان الرجل يسيب من ماله فيجيء به إلى السدنة فيدفعه إليهم فيطعمون منه أبناء السبيل من ألبانها ولحمانها إلاّ النساء فإنهم كانوا لا يعطونهن منها شيئاً حتى يموت فإذا مات أكلها الرجال والنساة جميعاً.
وقال علقمة: هي العبد يسيب على أن لا يكون له ولاء ولا عقل، وله ميراث. فقال عليه السلام: «إنما الولاء لمن أعتق» وإنما أخرجها بلفظ الفاعلة وهي بمعنى المفعولة وهي المسيبة والمخلاة على مذهب قوله ماء دافق وعيشة راضية، وأما الوصيلة فهي الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان البطن السابع ذكراً ذبحوه وأهدوه للآلهة، وإن كانت أنثى إستحيوها، فإن كانت ذكراً أو أنثى إستحيوا الذكر من أجل الأنثى.
وقالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه، وأما الحامي فهو الفحل إذا ركب ولد فيلده قبل حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا رعي إلا أن يموت فيأكله الرجال والنساء قال اللّه {ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ} يختلقون {على الله الكذب} في قولهم: واللّه أمرنا بها {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} قال اللّه تعالى {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} نظيرها في سورة البقرة ولقمان.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}
{ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية، اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فأجراها بعضهم على الظاهر.
وقال ضمرة بن ربيعة: تلا الحسن هذه الآية، وقال: الحمد للّه لها والحمد للّه عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلاّ وإلى جانبه منافق يكره عمله.
وقال بعضهم: معناها عليكم أنفسكم فاعملوا بطاعة اللّه {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر.
أبو البحتري عن حذيفة في هذه الآية: إذا أمرتم ونهيتم.
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي ظبيان عن قيس بن أبي حازم قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه على المنبر: إنكم تقرؤن هذه الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ماهي وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه عمّهم اللّه بعقاب، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول اللّه {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فيقول أحدكم: عليّ نفسي، واللّه لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليس منكم هو في العذاب، ثم ليدعنّ اللّه خياركم فلا يستجيب لهم» يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول اللّه إن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر حتى لا يبقى من المعروف شيء إلاّ عملنا به ولا من المنكر شيء إلاّ إنتهينا عنه ولا نأمره ولا ننهي أبداً.
فقال عليه السلام: «فمروا بالمعروف فإن لم يقبلوا به كله ما نهوا عن المنكر وإن لم ينتهوا عنه كله» وقيل: معنى الآية: عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم.
قال شقيق بن عقد: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيّام فلم تأمر ولم تنه فإن اللّه قال: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم}.
فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم تقبل منهم.
وروى سهل بن الأشهب عن الحسين والربيع عن أبي العالية إن هذه الآية قرأت على ابن مسعود {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، فقال ابن مسعود: ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا رُدت عليكم فعليكم أنفسكم، ثم قال: إن القرآن نزل حين نزل فمنه آي قد مضى تأويلهن ومنه آي وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه ومنه آي يقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم يسير ومنه من يقع آي لا ينهض بعد اليوم ومنه آي يقع في آخر الزمن ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وأُلبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامْرُؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية.
قال أبو أميّة السمعاني: سمعت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}.
فقال أبو ثعلبة: سألت عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: «ائمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت ديناً موثراً وشحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم فإن وراءكم أياماً أيام الصبر فإذا عمل العبد بطاعة اللّه لم يضره من ضل بعده وهلك وأجر العامل يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عامل».
قالوا: يا رسول اللّه كأجر خمسين عاملاً منهم؟
قال: «لا بل كأجر خمسين عاملاً منكم».
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في أهل الأهواء.
وقال أبو جعفر الرازي: دخل على صفوان بن حرث شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئاً من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة اللّه التي تخص بها أولياءه، {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية.
وقال الضحّاك: عليكم أنفسكم إذا إختلفت الأهواء ما لم يكن سيف أو سوط.
وقال ابن جبير: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل هجر وعليهم المنذر ابن ساوي التميمي يدعوهم إلى الإسلام فإن أبو فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من اليهود والعرب والنصارى والمجوس فأقرّوا بالجزية وكرهوا الإسلام، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما العرب فلا تقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية»فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله عليه السلام أسلمت العرب وأما أهل الكتاب والمجوس أعطوا الجزية، فقال في ذلك: منافقو أهل مكة وقالوا: عجباً من محمد يزعم أن اللّه تعالى بعثه ليقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية، هلاّ أكرههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب؟
فشقّ ذلك على المسلمين مشقة شديدة فأنزل اللّه تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يعني بعد أن بلغ محمد فأحذر، وأنزل بعد ما أسلم العرب {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256].
وقال ابن عباس: نزلت في جميع الكفار وذلك أن الرجل كان إذا أسلم قالوا: سفهت أباك، وضللت، وفعلت وفعلت فأنزل اللّه {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} وهذه لفظة إغراء، والعرب تغري من الصفات بعليك عليك ولبيك وإليك وعندك ودونك.
ثم قال: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} الضال والمهتدي {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
{يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية نزلت في ثلاثة نفر خرجوا تجاراً من المدينة إلى الشام، عدي بن فدي، وتميم بن أوس الداري وهما نصرانيان وبديل مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلماً مهاجراً واختلفوا في كنية أبيه.
فقال الكلبي: بديل بن أبي مازنة. وقال قتادة وابن سيرين وعكرمة: هو ابن أبي مارية، ومحمد بن إسحاق بن يسار وابن أبي مريم، فلما قدموا إلى الشام مرض بديل وكتب كتاباً فيه جميع ما معه وطرحها في متاعه ولم يخبر صاحبه بذلك، فلما إشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل ففتشا متاعه فأخذا منه إناء من فضة منقوشاً بالذهب فيه ثلثمائة مثقال فضة مموّهة بالذهب فغيباه ثم قضيا حاجتهما وانصرفا وقدما المدينة فدفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا فوجدوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه وما فيها الإناء فجاءوا تميماً وعدياً. فقالوا: هل باع صاحبنا شيئاً من متاعه؟ قالا: لا، قالوا: فهل خسر تجارة؟ قالا: لا، قالوا: فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا. قالوا: فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا فيها إناء من فضة مموّهة بالذهب فها ثلاثمائة مثقال فضة. قالا: لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم ودفعناه وما لنا إلاّ من حكم، فرفعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان}.
قال أهل الكوفة: معناه ليشهد إثنان لفظ الآية خبر ومعناها أمر. قال أهل البصرة: معناه شهادة بينكم شهادة إثنين فألقيت الشهادة وأقيمت الإثنان مقامهما كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] أي أهل القرية ما بقي أهل وأقام القرية مقامه فنصبها.
وقال بعضهم: معناه شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت أن يشهد إثنان {ذَوَا عَدْلٍ} أمانة وعقل {مِّنْكُمْ} يا معشر المؤمنين من أهل دينكم وملتكم.
قاله جميع المفسرين إلاّ عكرمة وعبيد فإنهما قالا: معناه من حيّ الموصي.
واختلفوا في صفة الإثنين، فقال قوم: هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي.
وقال آخرون: هما الوصيان أراد الله تأكيد الأمر فجعل الوصي إثنين دليل هذا التأويل أنه عقَّبه بقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ} ولا يلزم الشاهد يمين، ولأن الآية نزلت في الوصيين، وعلى هذا القول تكون الشهادة بمعنى الحضور، كقولك: شهدت فلان أي حضرت، قال اللّه تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت} [البقرة: 133] الآية، فقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2].
{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ملّتكم وهو قول إبن المسيب والنخعي وابن جبير ومجاهد وعبيدة ويحيى بن يعمر وأبي محجن قالوا: إذا لم يجد مسلمين فليشهد كافرين.
قال شريح إذا كان الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلماً يشهده على وصيته فليشهد يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن وأيّ كافر كان فشهادته جائزة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلاّ في سفرة ولا يجوز في سفر إلاّ في وصية فإن جاء رجلان مسلمان وشهدا بخلاف شهادتهما أجيزت شهادة المسلمين فأبطلت شهادة الكافرين.
وعن الشعبي: إن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة فأوصى ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد، الذي كان في عهد رسول اللّه فأحلفهما وأمضى شهادتهما.
قال آخرون: معناه من غير حيكم وعشيرتكم. وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة قالوا: لا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر.
{إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} سرتم وسافرتم في الأرض {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما فلم يأمنان الإرتياب بحق الورثة فاتهموهما في ذلك فادّعوا عليهما خيانة، فإن الحكم حينئذ أن تحبسونهما، أي تستوقفونهما {مِن بَعْدِ الصلاة} وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} من الكفار فأما إذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما، واختلفوا في هذه الصلاة ما هي.
فقال النخعي والشعبي وابن جبير وقتادة: من بعد صلاة العصر. وقال السدي: من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان صلاة العصر {فَيُقْسِمَانِ بالله} فيحلفان {إِنِ ارتبتم} شككتم {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} يقول لا نحلف باللّه كاذبين على عرض نأخذ عليه لو أن يكن يذهب إليه في ويجحده {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} ولو كان الذي يقسم له به ذا قربى ذا قرابة معنا {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} قرأ الشعبي لا نكتم شهادة اللّه بالتنوين، اللّه بخفض الهاء على الإتصال أراد اللّه على القسم.
وروي عن أبي جعفر {شهادة الله} بقطع الألف وكسر أولها على معنى ولا نكتم شهادة ثم إبتدأ يميناً فقال: اللّه أي واللّه [..........]يعقب بتنوين الشهادة، {اللّه} بالألف واللام وكسر الهاء وجعل الإستفهام حرفاً من حروف القسم، فروي عن بعضهم شهادة منونة، اللّه بنصب الهاء يعني ولا نكتم شهادة اللّه أما إن فعلنا ذلك {إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين} فلما نزلت الآية على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم، فاستحلفا عند المنبر باللّه الذي لا إله إلاّ هو أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إليهما فحلف على ذلك وخلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبيلهما حين حلفا فكتما الإناء ما شاء اللّه أن يكتما ثمّ ظهر واختلفوا في كيفية ظهور الإناء.
فروى ابن جبير عن ابن عباس إن الإناء وجد بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم.
قال الآخرون: لما طالت المدة اظهر الإناء وبلغ ذلك بني تميم فأتوهما في ذلك. فقالا: إنا كنّا قد اشترينا منهم هذا وقالوا: ألم تزعما بأن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه؟ قالا: لم يكن عندنا ثمنه فكرهنا أن نقر لكم به فكتمناكموه لذلك فرفعوهما لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه {فَإِنْ عُثِرَ} أي أطلع وظهر وأصل العثر الوقوع والسقوط على الشيء ومنه قوله: عثرت بكذا إذا أصبته وصدمته ووقعت عليه.
قال الأعمش:
بذات لوث عفرناة إذا عثرت *** فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
يعنى بقوله: عثرت أصاب ميم خفها مجر أو غيره، ثمّ يستعمل في كل واقع على شيء كان عنه خفياً كقولهم في أمثالهم: عثرت على الغزل بأخرة فلم تدع بنجد قردة.
{على أَنَّهُمَا} يعني الوصيين {استحقآ إِثْماً} أي استوجبا إثماً بأيمانهما الكاذبة وخيانتهما {فَآخَرَانِ} من أولياء الميت {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يعني مقام الوصيين {مِنَ الذين استحق}.
قرأ الحسن وحفص بفتح التاء وهي قراءة علي وأُبي بن كعب أي وجب عليهم الإثم يقال حق واستحق بمعنى وقال: {الأوليان} رجع إلى قوله: فآخران الأوليان ولم يرتفع بالإستحقاق.
وقرأ الباقون: بضم التاء على المجهول يعني الذين استحق فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت، إستحق الحالفان بسببهم وفيهم الإثم على المعنى في كقوله: {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102].
وقال صخر الغي:
متى ما تنكروها تعرفوها *** على أقطارها علق نفيث
{الأوليان} بالجمع قرأه أكثر أهل الكوفة واختيار يعقوب أي من الذين الأولين.
وقرأ الحسن: الأولون، وقرأ الآخرون الأوليان على لغة الآخرين وإنما جاز ذلك، الأولان معرفة والآخران بكثرة لأنه حين قال من الذين وحدهما ووصفهما صار كالمعرفة في المعنى.
{فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا} أي واللّه لشهادتنا {أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} يعني يميننا أحق من يمينهما. نظيره قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] في قصة اللعان أراد الأيمان، وهذا كقول القائل: أشهد باللّه وله أقسم {وَمَا اعتدينآ} في يميننا {إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين} فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة السهميان حلفا باللّه بعد العصر مرّة فدفع الجام إليهما وإلى أولياء الميت، وكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: صدق اللّه عز قوله أنا أخذت الجام فأتوب إلى اللّه وأستغفره.
وإنما إنتقل اليمين إلى الأوليان، لأن الوصيين صح عليهما الإناء ثم ادعيا أنهما ابتاعاه، وكذلك إذا ادعى الوصي أن الموصي أوصى له بشيء ولم يكن ثم بينة، وكذلك إذا ادعى رجل قبل رجل مالا فأقرّ المدعي عليه بذلك ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي أو وهبها له المدعي، فإن في هذه المسائل واشتباهها يحكم برد اليمين على المدعي.
روى محمد بن إسحاق عن أبي النضير عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم الداري، قال: بعنا الجام بألف درهم فقسمناه أنا وعدي فلما أسلمت تأثمت من ذلك بعد ما حلفت كاذباً وأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه فأتوا به إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا. فأمر الموالي أن يحلفوا فحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي ورددت أنا الخمسمائة فذلك قوله: {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ} أي ذلك أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم إذا خافوا ردّ اليمين وإلزامهم الحق.
{واتقوا الله واسمعوا} الآية. واختلفوا في حكم الآية. فقال بعضهم: هي منسوخة وروى ذلك ابن عباس. وقال الآخرون: هي محكمة وهي الصواب {يَوْمَ} أي إذكروا واحذروا يوم {يَجْمَعُ الله الرسل} وهو يوم القيامة {فَيَقُولُ} لهم {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} أي ما الذي أجابتكم أمتكم وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي {قَالُواْ} أي فيقولون {لاَ عِلْمَ لَنَآ} قال ابن عباس: لا علم لنا إلاّ علم أنت أعلم به منا.
وقال ابن جريح: معنى قوله: {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} أي ما حملوا ويصدقوا بعدكم فيقولوا: لا علم لنا.
الحسن ومجاهد، السدي ممن يقول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يحتسبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أمتهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8